الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (31): {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}{وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا} أي قرآناً ما وهو اسمُ أن والخبر قوله تعالى: {سُيّرَتْ بِهِ الجبال} وجوابُ لو محذوفٌ لانسياق الكلام إليه بحيث يتلقّفه السامعُ من التالي والمقصودُ إما بيانُ عِظم شأنِ القرآنِ العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدرَه العليَّ ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام وإما بيانُ غلوهم في المكابرة والعِنادِ وتماديهم في الضلال والفساد فالمعنى على الأول لو أن قرآناً سُيّرت به الجبالُ أي بإنزاله أو بتلاوته عليها وزُعزعت عن مقارّها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام {أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض} أي شُقّقت وجُعلت أنهاراً وعيوناً كما فُعل بالحجر حين ضربه عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعاً متصدّعة {أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} أي بعد أن أحييَ بقراءته عليها كما أحييتْ لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآنَ لكونه الغايةَ القصوى في الانطواء على عجائبِ آثارِ قدرة الله تعالى وهيبته عز وجل كقوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله} لا في الإعجاز إذ لا مدخل له في هذه الآثار ولا في التذكير والإنذار والتخويفِ لاختصاصها بالعقلاء مع أنه لا علاقةَ لها بتكليم الموتى، واعتبارُ فيض العقول إليها مُخلٌّ بالمبالغة المقصودة، وتقديمُ المجرور في المواضع الثلاثة على المرفوع لما مر غيرَ مرة من قصد الإبهام ثم التفسيرِ لزيادة التقريرِ، لأن بتقديم ما حقُّه التأخيرُ تبقى النفسُ مستشرفةً ومترقّبةً إلى المؤخر أنه ماذا؟ فيتمكّن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن، وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع، واقتراحُهم وإن كان متعلقاً بمجرد ظهورِ مثل هذه الأفاعيلِ العجيبة على يده عليه السلام لا بظهورها بواسطة القرآنِ لكن ذلك حيث كان مبنياً على عدم اشتمالِه في زعمهم على الخوارق نيط ظهورُها به مبالغةً في بيان اشتمالِه عليها وأنه حقيقٌ بأن يكون مصدراً لكل خارقٍ، وإبانةً لركاكة رأيهم في شأنه الرفيعِ كأنه قيل: لو أن ظهورَ أمثالِ ما اقترحوه من مقتَضيات الحِكمة لكان مظهرُها هذا القرآنَ الذي لم يعدّوه آية، وفيه من تفخيم شأنه العزيزِ ووصفِهم بركاكة العقلِ ما لا يخفى {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} أي له الأمرُ الذي عليه يدور فلكُ الأكوان وجوداً وعدماً يفعل ما يشاء ويحكمُ ما يريد لما يدعو إليه من الحِكَم البالغةِ، وهو إضرابٌ عما تضمنته الشرطيةُ من معنى النفي لا بحسب منطوقِه بل باعتبار موجِبه ومؤدّاه أي لو أن قرآناً فُعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآنَ، ولكن لم يُفعل بل فُعل ما عليه الشأنُ الآن لأن الأمرَ كلَّه له وحده فالإضرابُ ليس بمتوجِّهٍ إلى كون الأمرِ لله سبحانه بل إلى ما يؤدِّي إليه ذلك من كون الشأنِ على ما كان لما تقتضيه الحِكمة من بناء التكليف على الاختبار.{أَفَلمْ يَيأس الَّذِينَ آمنواْ} أي أفلم يعلموا على لغة هوازنَ أو قومٍ من النَّخْع أو على استعمال اليأس في معنى العِلم لتضمّنه له، ويؤيده قراءة علي وابن عباس وجماعةٍ من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أفلم يتبينْ بطريقي التفسير. والفاءُ للعطف على مقدر أي أغفَلوا عن كون الأمرِ جميعاً لله تعالى فلم يعلموا {أَن لَّوْ يَشَاء الله} على حذف ضميرِ الشأنِ وتخفيفِ أن {لَهَدَى الناس جَمِيعًا} بإظهار أمثالِ تلك الآثارِ العظيمةِ فالإنكارُ متوجهٌ إلى المعطوفين جميعاً، أو أعلموا كونَ الأمر جميعاً لله فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلمُ مما ذكر فهو متوجِّهٌ إلى ترتب المعطوفِ على المعطوف عليه، أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول وعلى التقديرين فالإنكارُ إنكارُ الوقوعِ كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} لا إنكارِ الواقع كما في قولك ألم تخفِ الله حتى عصيتَه، ثم إن مناطَ الإنكار ليس عدمَ علمهم بمضمون الشرطية فقط بل مع عدم علمِهم بعدم تحققِ مقدَّمها، كأنه قيل: ألم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هدايتَهم لهداهم وأنه لم يشأْها وذلك لأنهم كانوا يؤيدون أن يظهر ما اقترحوا من الآيات ليجتمعوا على الإيمان، وعلى الثاني لو أن قرآناً فُعل به ما فُصِّل من التعاجيب لما آمنوا به كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى} الآية، فالإضرابُ حينئذٍ متوجّهٌ إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شُرح أي فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعاً إن شاء الله أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه داعيةُ الحكمةِ من غير أن يكون لأحد عليه تحكّم أو اقتراحٌ واليأسُ بمعنى القنوط، أي ألم يعلم الذين آمنوا حالَهم هذه فلم يقنَطوا من إيمانهم حتى أحبّوا ظهورَ مقترحاتِهم؟ فالإنكارُ متوجهٌ إلى المعطوفين أو أعلِموا ذلك فلم يقنَطوا من إيمانهم؟ فهو متوجهٌ إلى وقوع المعطوفِ بعد المعطوفِ عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور، والإنكارُ على التقديرين إنكارُ الواقع كما في قوله تعالى: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ونظائرِه، لا إنكارُ الوقوع فإن عدم قنوطِهم منه مما لا مردّ له، وقوله تعالى: {أَن لَّوْ يَشَاء الله} الخ، متعلّقٌ بمحذوف أي أفلم ييأسوا من إيمانهم علماً منهم أو عالمين بأنه لو يشاء الله لهدى الناسَ جميعاً وأنه لم يشأ ذلك أو لآمنوا أي أفلم يقنط الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً؟ على معنى أفلم ييأس من إيمانهم المؤمنون؟ بمضمون الشرطية وبعدم تحققِ مقدّمها المنفهم من مكابرتهم حسبما تحكيه كلمةُ لو فالوصفُ المذكورُ من دواعي إنكارِ يأسِهم، وقيل: «إن أبا جهل وأضرابه قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً سيّر بقرآنك الجبالَ عن مكة حتى تتسعَ لنا ونتخذ فيها البساتين والقطائع، وقد سُخِّرت لداود عليه السلام فلست بأهونَ على الله منه إن كنت نبياً كما زعمت، أو سخّر لنا به الريحَ كما سُخّرت لسليمان عليه السلام لنتّجر عليها إلى الشام فقد شق علينا قطعُ الشُقةِ البعيدة أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا فنزلت».فمعنى تقطيعِ الأرض حينئذ قطعُها بالسير ولا حاجة حينئذ إلى الاعذار في إسناد الأفاعيلِ المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه في الوجهين الأولين، وعن الفراء أنه متعلقٌ بما قبله من قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} وما بينهما اعتراضٌ وهو بالحقيقة دالٌّ على الجواب والتقدير ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبالُ أو قطعت به الأرض أو كُلم به الموتى لكفروا بالرحمن، والتذكير في كلم به الموتى لتغليب المذكر من الموتى على غيره.{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} من أهل مكةَ {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وعدمُ بيانه إما للقصد إلى تهويله أو استهجانه وهو تصريحٌ بما أَشعر به بناءُ الحكم على الموصول من علّية الصلةِ له مع منافي صيغة الصنعِ من الإيذان برسوخهم في ذلك {قَارِعَةٌ} داهيةٌ تقرعهم وتقلقهم وهو ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائبِ من القتل والأسر والنهب والسلبِ، وتقديم المجرورِ على الفاعل لما مر مراراً من إرادة التفسير إثرَ الإبهام لزيادة التقرير والإحكامِ مع ما فيه من بيانِ أن مدارَ الإصابة من جهتهم آثرَ ذي أثير {أَوْ تَحُلُّ} تلك القارعةُ {قَرِيبًا} أي مكاناً قريباً {مّن دَارِهِمْ} فيفزَعون منها ويتطاير إليهم شَرارُها، شبِّهت القارعةُ بالعدو المتوجّه إليهم فأُسند إليها الإصابةُ تارة والحلولُ أخرى ففيه استعارةٌ بالكناية وتخييلٌ وترشيحٌ {حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله} أي موتُهم أو القيامةُ فإن كلاًّ منهما وعدٌ محتوم لا مرد له، وفيه دِلالةٌ على أن ما يصيبهم عند ذلك من العذاب في غاية الشدةِ وأن ما ذكر سابقةُ نفحةٍ يسيرة بالنسبة إليه ثم حُقق ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} أي الوعدَ كالميلاد والميثاق بمعنى الولادةِ والتوثِقةِ لاستحالة ذلك على الله سبحانه. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبعثها وكانوا بين إغارةٍ واختطاف وتخويفٍ بالهجوم عليهم في ديارهم فالإصابة والحلولُ حينئذ من أحوالهم ويجوز على هذا أن يكون قوله تعالى: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ} خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم مراداً به حلولُه الحديبيةَ، والمرادُ بوعد الله ما وعد به من فتح مكة..تفسير الآية رقم (32): {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)}{وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ} كثيرة خلَت {مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي تركتهم ملاوةً من الزمان في أمن ودعةٍ كما يملى للبهمية في المرعى. وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقيَ من المشركين من التكذيب والاقتراحِ على طريقة الاستهزاءِ به ووعيدٌ لهم، والمعنى أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ مطردٌ قد فُعل ذلك برسل كثيرة كائنةٍ من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم، والعدولُ في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غيرُ المستهزئين بل لإرادة الجمعِ بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا مع استهزائهم لا باستهزائهم فقط {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي عقابي إياهم، وفيه من الدلالة على تناهي كيفيته في الشدة والفظاعة ما لا يخفى..تفسير الآية رقم (33): {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} أي رقيبٌ مهيمنٌ {على كُلّ نَفْسٍ} كائنة من كانت {بِمَا كَسَبَتْ} من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من ذلك بل يجازي كلاًّ بعمله وهو الله تعالى والخبرُ محذوفٌ أي كمن ليس كذلك إنكاراً لذلك، وإدخالُ الفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المماثلة غبَّ ما عُلم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديدِ والأخذ الشديد ومن كون الأمرِ كله لله تعالى وكونِ هداية الناس جميعاً منوطةً بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارعِ على الكفرة إلى أن يأتيَ وعدُ الله كأنه قيل: الأمرُ كذلك، فمن هذا شأنُه كما ليس في عداد الأشياء حتى تُشركوه به؟ فالإنكار متوجهٌ إلى ترتب المعطوفِ أعني توهّمَ المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كونَ الأمر كما ذُكر كما في قولك: أتعلم الحقَّ فلا تعملُ به؟ لا إلى المعطوفين جميعاً كما إذا قلت ألا تعلمه فلا تعملُ به، وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} جملةٌ مستقلة جيء بها للدلالة على الخبر أو حالية، أي أفمن هذه صفاتُه كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاءَ لا شريكاً واحداً، أو معطوفةٌ على الخبر إن قدّر ما يصلح لذلك أي أفمن هذا شأنُه لم يوحّدوه وجعلوا له شركاءَ؟ ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمر للتنصيص على وحدانيته ذاتاً واسماً وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادةِ مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولاً للدلالة على التفخيم، وقوله تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ} تبكيتٌ لهم إثرَ تبكيتٍ أي سمُّوهم من هم وماذا أسماؤهم أو صِفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشِرْكة {أَمْ تُنَبّئُونَهُ} أي بل أتنبئون الله {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض} أي بشركاءَ مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى ولا يعزُب عنه مثقالُ ذرة في السموات والأرض وقرئ بالتخفيف {أَم بظاهر مّنَ القول} أي بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى وحقيقةٌ كتسمية الزنجيّ كافوراً كقوله تعالى: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} وهاتيك الأساليبُ البديعة التي ورد عليها الآيةُ الكريمةُ مناديةٌ على أنها خارجةٌ عن قدرة البشر من كلام خلاقِ القُوى والقدَر فتبارك الله رب العالمين.{بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وضع الموصولُ موضع المضمر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالكفر {مَكْرِهِمْ} تمويهُهم الأباطيلَ أو كيدهم للإسلام بشركهم {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} أي سبيلِ الحق، من صدّه صداً، وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدالِ إليها وقرئ بفتحها أي صدوا الناس أو من صد صدوداً {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي يخلق فيه الظلالَ بسوء اختياره أو يخذلْه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يوفقه للهدى..تفسير الآيات (34- 38): {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)}{لَهُمْ عَذَابَ} شاق {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم} بالقتل والأسر وسائرِ ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبةً على كفرهم {وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَقُّ} من ذلك بالشدة والمدة {وَمَا لَهُم مّنَ الله} من عذابه المذكور {مِن وَاقٍ} من حافظ يعصِمهم من ذلك، فمِن الأولى صلةٌ للوقاية والثانية مزيدةٌ للتأكيد.{مَّثَلُ الجنة} أي صفتُها العجيبة الشأنِ التي في الغرابة كالمثل {التى وُعِدَ المتقون} عن الكفر والمعاصي وهو مبتدأ خبرُه محذوفٌ عند سيبوبه أي فيما قصصنا عليك مثلُ الجنة وقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} تفسير لذلك المثَل على أنه حالٌ من الضمير المحذوف من الصلة العائدِ إلى الجنة أي وعدها وهو الخبرُ عند غيره، كقولك: شأنَ زيد يأتيه الناسُ ويعظمونه أو على حذف موصوفٍ أي مثلُ الجنة جنةٌ تجري إلخ {أُكُلُهَا} ثمرُها {دَائِمٌ} لا ينقطع {وِظِلُّهَا} أيضاً كذلك لا تنسخه الشمسُ كما تنسخ ظلالَ الدنيا {تِلْكَ} الجنة المنعوتةُ بما ذكر {عقبى الذين اتقوا} الكفرَ والمعاصيَ أي ما لهم ومنتهى أمرِهم {وَّعُقْبَى الكافرين النار} لا غيرُ، وفيه ما لا يخفى من إطماع المتقين وإقناطِ الكافرين.{والذين ءاتيناهم الكتاب} هم المسلمون من أهل الكتاب كعبد اللَّه بنِ سلام وكعبٍ وأضرابِهما ومَنْ آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعون بنجرانَ، وثمانيةٌ باليمن، واثنانَ وثلاثون بالحبشة {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} إذ هو الكتابُ الموعودُ في التوراة والإنجيل {وَمِنَ الاحزاب} أي من أحزابهم وهم كفرتُهم الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرفِ والسيدِ والعاقبِ أسقُفيْ نجرانَ وأتباعِهما {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} وهو الشرائعُ الحادثة إنشاءً أو نسخاً لا ما يوافق ما حرفوه وإلا لنُعيَ عليهم من أول الأمر أن مدارَ ذلك إنما هو جناياتُ أيديهم، وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به، وقيل: يجوز أن يراد بالموصول الأول عامتُهم فإنهم أيضاً يفرحون به لكونه مصداقاً لكتبهم في الجملة فحينئذ يكون قوله تعالى: {وَمِنَ الأحزاب} الخ، تتمةً بمنزلة أن يقال: ومنهم من ينكر بعضه.{قُلْ} إلزاماً لهم ورداً لإنكارهم {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أي شيئاً من الأشياء أو لا أفعل الإشراكَ به، والمراد قصرُ الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصرُ الأمرِ مطلقاً على عبادته تعالى خاصة، أي قل لهم: إنما أمرتُ فيما أُنزل إلي بعبادة الله وتوحيده، وظاهرٌ أن لا سبيلَ لكم إلى إنكاره لإطباق جميعِ الأنبياءِ والكتبِ على ذلك كقوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلِ الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}فما لكم تشركون به عُزيراً والمسيحَ؟ وقرئ: {ولا أشركُ به} بالرفع على الاستئناف أي وأنا لا أشرك به {إِلَيْهِ} إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكورِ من التوحيد أو إلى ما أمرت به من التوحيد {أَدْعُو} الناسَ لا إلى غيره أو لا إلى شيء آخرَ مما يُطبق عليه الكتبُ الإلهية والأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام فما وجهُ إنكارِكم {وَإِلَيْهِ} إلى الله تعالى وحده {مَئَابٍ} مرجعي للجزاء، وحيث كانت هذه الحجةُ الباهرة لازمةً لهم لا يجدون عنها محيصاً أُمر عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبَهم بذلك إلزاماً وتبكيتاً لهم، ثم شرُع في رد إنكارِهم لفروع الشرائع الواردةِ ابتداءً أو بدلاً من الشرائع المنسوخةِ ببيان الحكمةِ في ذلك فقيل: {وكذلك أنزلناه} أي ما أنزل إليك، وذلك إشارةٌ إلى مصدر أنزلناه أو أنزل إليك، ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنتظم لأصول مجمَعٍ عليها وفروعٍ متشعبة إلى موافِقة ومخالِفة حسبما تقتضيه قضيةُ الحكمةِ والمصلحة أنزلناه {حُكْمًا} حاكماً يحكم في القضايا والواقعات بالحق أو يُحكم به كذلك، والتعرضُ لذلك العنوان مع أن بعضَه ليس بحكم لتربية وجوبِ مراعاتِه وتحتم المحافظةِ عليه {عَرَبِيّاً} مترجماً بلسان العربِ، والتعرضُ لذلك للإشارة إلى أن ذلك إحدى موادِّ المخالفة للكتب السابقةِ مع أن ذلك مقتضى الحكمةِ إذ بذلك يسهُل فهمه وإدراكُ إعجازه، والاقتصارُ على اشتمال الإنزالِ على أصول الديانات المجمعِ عليها حسبما يفيده قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} الخ، يأباه التعرّض لاتباع أهوائِهم وحديثِ المحو والإثبات، وأنْ لكل أجلٍ كتابٌ فإن المجمعَ عليه لا يتصور فيه الاستتباعُ والاتباع {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} التي يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفةِ لما أنزل إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل {بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} العظيمِ الشأن الفائضِ من ذلك الحُكم العربيِّ أو العلم بمضمونه {مَا لَكَ مِنَ الله} من جنابه العزيز، والالتفاتُ من التكلم إلى الغَيبة وإيرادُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة، قال الأزهري: لا يكون إلها حتى يكون معبوداً وحتى يكون خالقاً ورازقاً ومدبراً. {مِن وَلِىّ} يلي أمرَك وينصرك على من يبغيك الغوائلَ {وَلاَ وَاقٍ} يقيك من مصارع السوءِ وحيث لم يستلزم نفيُ الناصرِ على العدو نفيَ الواقي من نكايته أُدخل على المعطوف حرفُ النفي للتأكيد، كقولك: ما لي دينارٌ ولا درهم، أو ما لك من بأس الله من ناصر وواقٍ لاتباعك أهواءَهم. وأمثالُ هاتيك القوارعِ إنما هي لقطع أطماعِ الكفرة وتهييجِ المؤمنين على الثبات في الدين، واللام في لئن موطئةٌ وما لك سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم.{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً} كثيرةً كائنة {مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} نساء وأولاداً كما جعلناها لك وهو رد لما كانوا يَعيبونه صلى الله عليه وسلم بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون: ما لهذا الرسولِ يأكل الطعام؟ إلخ {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} منهم أي ما صح وما استقام ولم يكن في وسعه {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً} مما اقتُرح عليه وحكمٍ مما التُمس منه {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ومشيئتِه المبنية على الحِكم والمصالحِ التي عليها يدور أمرُ الكائنات لاسيما مثلُ هذه الأمورِ العظام، والالتفاتُ لما قدمناه ولتحقيق مضمون الجملةِ بالإيماء إلى العلة {لِكُلّ أَجَلٍ} أي لكل مدةٍ ووقت من المُدد والأوقات {كِتَابٌ} حكمٌ معين يُكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمةُ فإن الشرائعَ كلها لإصلاح أحوالِهم في المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك أنه يختلف حسب اختلافِ أحوالِهم المتغيّرةِ حسب تغيّرِ الأوقات كاختلاف العِلاج حسب اختلافِ أحوالِ المرضى بحسب الأوقات.
|